عن ” الإسلام هو الحل”.!

د. صادق القاضي

عندما رفع “الخوارج” شعار “الإسلام هو الحل”، كانت المشكلة قد تحددت بشكل كامل ونهائي بالفصائل الإسلامية الأخرى، وزعماءها الذين كانت تهمتهم هي البعد عن الإسلام، والحكم بغير ما أنزل الله.. ومن ثمّ فإن تصفيتهم جسدياً خطوة لا بد منها في سبيل إقامة مملكة الله على الأرض!.

على أساس الآية :”إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة”، سمّى الخوارج أنفسهم بـ” الشُّراة”(جمع شارٍ)، وبناءً عليه بادر رجل “مؤمن” “أسمر حسن الوجه، في جبهته أثر السجود”، فباع نفسه لله، واشترى الجنة، في صفقة تجارية كان ثمنها رأس “الإمام علي(ع)”.!

كان الرجل يبدو متديناً صالحاً، فهو قد قرأ القرآن على معاذ بن جبل، وشهد فتح مصر.. وكان معروفا من أهل الفقه والعبادة والقرآن والجهاد.. ورغم هذا، أو ربما بسبب هذا، كان شخصية انتحارية بامتياز، ونفذ إحدى أقدم وأسوأ جرائم الاغتيال السياسي الديني في تاريخ الإسلام.!

بحماس عجيب وعزيمة صلبة، خطط الرجل للعملية، وسافر سرا لتنفيذها في مدينة رسول الله، وقام باغتيال “الإمام علي” داخل المسجد النبوي، في وقت صلاة فجر يوم جمعة من رمضان، سنة 40 للهجرة الشريفة.

تبين لاحقاً، أن هذا القاتل هو “عبد الرحمن بن ملجم المرادي”وهو رجل من حِميَر، معروف بالإيمان والتقوى، كما كان معروفا لدى الإمام بشكل خاص، فقد كان من شيعته بالكوفة، وشهد معه “صفّين”، وهذا ما أثار استغراب

“الإمام علي”، الذي سأله جريحاً:
– ألم أحسن إليك؟!
– بلى.
– فما حملك على هذا.!؟
– (يتحدث عن سيفه) شحذته أربعين صباحا، وسألت الله أن يقتل به “شر خلقه”!.

لم يخطر ببال هذا الجهادي يومها أنه قد يكون على خطأ، أو أنه ارتكب جريمة، وعلى العكس اعتبر أنه نفذ مهمة مقدسة وصفها سابقا لأحد شركائه، بـ “شرف الدنيا والآخرة”، نفذها بقناعة تامة، وحماس إيماني متقد، حتى أنه وهو يوجه ضربته النافذة من سيفه المسموم إلى رأس “الإمام علي”، هتف بصوتٍ عالٍ: ” لله الحكم يا علي لا لك “!

كان “ابن ملجم” مؤمنا بالله، وفق إسلام سياسي بمواصفات خاصة، أبرزها إيمان أعمى بفكرة صماء، واستعداد للتضحية بلا حدود من أجل فرض فكرته على الواقع بالعنف والإكراه، فضلا عن جرأة ملفتة، مكنته من مواجهة تبعات الجريمة بكل تلك الثقة بالنفس واللامبالاة، التي نجدها في حالات ملفتة لدى شخصيات جهادية معاصرة في مواجهة المحاكمات وأحكام الإعدام.

كالإخوان المسلمين، كان الخوارج يصفون أنفسهم بأنهم دعاة الناس لعبادة ربهم، ويملكون الحل الإسلامي، بين الإيديولوجيتين كثير من نقاط التقاطع حد التماثل الجذري، في الرؤى والشعارات والممارسات، وإن كانت المقارنة غير عادلة، جماعة “الإخوان المسلمين” تخوض في صفقات مشبوهة ومؤامرات قذرة يقشعر منها بدن الشيطان نفسه!.

في اليوم الثالث لوفاة “الإمام علي(ع)” أُحضر ابن ملجم بين يدي “الحسن” فقال له:
-والله لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار.
رد “ابن ملجم”:

– لو علمت أن هذا في يديك ما اتخذت إلها غيرك !

كابن ملجم واجه “سيد قطب” على سبيل المثال، الموت بشجاعة، ولم يضعف هذا الأخير أمام الإغراءات التي قيل إنها كانت تنهال عليه من أجل العفو عنه مقابل التراجع عن أفكاره التكفيرية الجهادية، فكان رده بكل ثباتٍ وإصرار:
– إن السبابة التي ترتفع لهامات السماء موحدة لله عز وجل، لتأبى أن تكتب برقية تأييدٍ لطاغية، ولنظامٍ مخالفٍ لمنهج الله الذي شرعه لعباده.!

موقف كهذا يمكن أن يعد بطوليا ملهما، وهو كذلك في أدبيات الحركات الجهادية، بيد أن العبرة تكمن في الفكرة لا في طريقة الموت من أجلها. في كل زمانٍ ومكان هناك من يضحون بالأموال والأرواح من أجل معتقدات تستحق البول عليها.!

تم إنزال حد الحرابة، على “ابن ملجم”، فلم يبالِ، فهو يطلب الشهادة، وخلال قطع يديه ورجليه كان لا ينفك عن ذكر الله، وقراءة سورة الفلق، فقط عندما أرادوا قطع لسانه أبدى بعض الجزع، وعندما سئل عن ذلك قال:
– وددت أن لا يزال فمي رطبا بذكر الله.

كان مستلَبا على ثقة مطلقة وإيمان كامل بأن ما فعله، جهاد في سبيل الله، سيدخله الجنة، ومثل هذا كان يستشعره “سيد قطب”، الذي عندما سمع الحكم عليه بالإعدام قال:

– الحمد لله. لقد عملت خمسة عشر عاما لنيل الشهادة!.

لاحقاً، تم اعتبار ابن ملجم رمزا خالدا من قبل جماعته التي حرضته على الجريمة، وزرعت فيه هذا الكم الهائل من كراهية الآخر، والشعور بالاصطفاء، والاستعداد الكامل للتضحية بكل شيء في سبيل عقيدته. لقد اعتبرته بطلا، طبق “الحل الإسلامي” بكل أمانة ودقة وتفانٍ وتجرد ونكران ذات.!.

تماماً، كأسامة بن لادن بالنسبة للقاعدة، و”أبو مصعب الزرقاوي” بالنسبة لـ”قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” وأبو عمر البغدادي بالنسبة لداعش، وناصر الوحيشي بالنسبة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وكذلك تقول عن “شهدائها” كل الجماعات الجهادية المعاصرة التي رفعت شعار الخوارج نفسه “الإسلام هو الحل”، وفق التوصيف نفسه للمشكلة، التي تكمن في الآخر، ومضت في الطريق الدموي نفسه، لكن بدرجات أكثر رعبا واستخفافا بالآدمية وحق الحياة.

حتى القليل من استقراء تاريخ وحاضر الإسلام السياسي، من الخوارج إلى طالبان، وفي الجزائر وسوريا وليبيا والعراق واليمن.. يكفي للتأكيد على أن كل الذين رفعوا شعار “الإسلام هو الحل” جعلوا منه مشكلة، وأن الذين رفعوا شعار “الله غايتنا” جعلوا منه وسيلة انتهازية للاستحواذ على مصالح دنيوية أنانية ضيقة بالعنف والإرهاب.

مقالات ذات صلة