كيف قدِّم القرآن الكريم النموذج الصادق للإنتماء الإيماني الصادق

ثم يقدِّم القرآن الكريم النموذج الصادق، ويختار عنوان الصدق ليكون هو العنوان المعبِّر بالفعل عن الانتماء الحقيقي، عن الانتماء الذي يرضي الله -سبحانه وتعالى- ويمثل الانتماء الواقعي الصادق، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، هم يتحلّون باليقين، بالثقة بالله -سبحانه وتعالى- إيمانهم هو إيمانٌ صادق لا ارتياب معه، لا شك معه، فهم أولاً فيما يتعلق بوعد الله ووعيده لم يعانوا من حالة الارتياب، لم يصبهم الشك والقلق، لا، عندهم اطمئنان تام بكل وعد الله، عندهم ثقة قوية بالله -سبحانه وتعالى- وعندهم يقين بما وعد الله -سبحانه وتعالى- {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، على مستوى وعد الله ووعيده، على مستوى الحق الذي ينتمون إليه، يعونه، يلتزمون به، يتمسكون به، لا ارتياب عندهم أبداً.
{وَجَاهَدُوا}، هم ليس فقط اهتموا بالشعائر الدينية، والالتزامات الدينية على المستوى السلوكي، على مستوى المعاملات؛ وإنما مع ذلك أيضاً كان لديهم هذا الجانب المهم في الإسلام: التحلي بالمسؤولية، المواقف الصحيحة، التحرك الصحيح، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، الإنسان إذا وصل إلى هذا المستوى في انتمائه الإيماني: إلى مستوى الجهاد بالمال والنفس، فمعنى ذلك بالتأكيد: أنه فيما دون ذلك من الالتزامات الدينية، من الشعائر والأعمال هو مهتم، هو ملتزم؛ لأن هذا هو ما قد يتهرب منه الكثير من الناس مع التزامهم بما هو دونه من الأعمال التي يرونها سهلة، من الالتزامات التي يرونها بسيطة، من الأعمال التي يرونها غير مكلفة.

ثم يأتي القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة ليقدم لنا كذلك المواصفات التي تعبِّر عن المصداقية في هذا الانتماء، والتي تتناول كل جوانب الحياة، كل واقع الإنسان، في كل مجالات حياته، سواءً في سورة المؤمنون… أو في آياتٍ أخرى، وسنأتي- إن شاء الله- لنتحدث عن هذا الجانب في هذا السياق، وفي هذه الكلمة.

إنما من المهم أن ندرك قبل ذلك أننا عندما نتحدث عن الإيمان، وعن الانتماء الإيماني، لا تكمن فقط أهمية الحديث عن هذا الجانب باعتباره الانتماء الأساسي للأمة الإسلامية، وجانبٌ مهمٌ جداً في حسابه الديني، وفي أهميته الدينية؛ إنما أيضاً كحاجة نحتاج إليها في واقع حياتنا، كما قلت: نحن نواجه في هذا الزمن وبطبيعة ظروف الحياة المشاكل والتحديات والأخطار الكبيرة، وأهم عنصر قوة نستفيد منه في مواجهة هذه التحديات، والأخطار، والأعداء، والفتن، والمشاكل، والصعوبات، أهم عنصر قوة يمكن أن نستفيد منه، وأهم عاملٍ للتماسك والثبات والقوة في مواجهة كل التحديات، وكل الصعوبات، وكل الأخطار، وكل الأعداء، هو الإيمان، فلذلك نحن نتحدث عمَّا نحن بأمسِّ الحاجة إليه، عمَّا ليس الحديث عنه كأمرٍ ثانوي، وكقضيةٍ هامشية، وكمسألةٍ بعيدةٍ عن واقع حياتنا، وعن احتياجنا. لا، نحن نتحدث عمَّا نحن بحاجةٍ إليه، عمَّا نحن في أمسِّ الحاجة إليه؛ لأننا نواجه التحديات والمشاكل الكبيرة جداً.

عندما نأتي إلى كل واقعنا، ما نواجهه من تحديات ومخاطر على حياتنا على المستوى العسكري، على المستوى الأمني، على المستوى الاقتصادي… على كل المستويات، وفي كل المجالات، أهم عنصر قوة، أهم عامل لمواجهة كل هذه التحديات، كل هذه الصعوبات، كل هذه الأخطار، هو الإيمان، الإيمان بمفهومه الصحيح، الإيمان وفق الانتماء الصادق، الإيمان بأصالته التي تمثل امتداداً لما كان عليه رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الإيمان وفق مفهومه القرآني الصحيح والمتكامل، هذا الذي نحتاج إليه، وهذا الذي نرى آثاره المهمة والعظيمة في محطات من تاريخ أمتنا في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- هذا الذي نرى أثره الكبير بعد أن دخل شعبنا في ذلك الزمن في هذا الإسلام، وعندما انتمى هذا الانتماء، كيف كانت مسيرة حياته، كيف ترك هذا الانتماء أثراً كبيراً وعظيماً ومهماً في حياة الناس آنذاك، وكذلك في الإنسان نفسه، كيف هو الأثر الذي يتركه في الإنسان أولاً، ثم في حياة هذا الإنسان ثانياً.

عندما نأتي إلى هذا العصر ونتأمل في واقع الحياة من حولنا، واقع المجتمع البشري من حولنا، هذه الأمم المنتشرة على أقطار الأرض، وفي أنحاء المعمورة، ونرى ذلك الشعب وذلك الشعب له هويته، ثقافاته، عاداته، تقاليده، مفهومه الذي ينطلق منه في واقع هذه الحياة، الذي يبني عليه مسيرة حياته، يبني عليه سلوكياته، يصنع من خلاله مواقفه، يحدد من خلاله مسارات حياته، نعود إلى واقعنا نحن كأمةٍ مسلمة، ونرى أنفسنا نعيش ظرفاً لربما يختلف عن كثيرٍ من الأمم اختلافاً كثيراً؛ لأننا أكثر الأمم في هذه الأرض استهدافاً، ومنطقتنا هذه تعيش من المشاكل والأزمات والتحديات والأخطار والمعاناة ما لا تعيشه أمةٌ أخرى.
كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة جمعة رجب 1441هـ 28-02-2020

مقالات ذات صلة