صعوداً إلى صعدة المنتهى
الكاتب / صلاح الدكاك
كآدمَ هي صعدةُ نفخ فيه اللهُ من روحِه، فكان بذرةَ ارتقاء الجنس البشري من حضيض الخلقة والمدارك والحواس، إلى سِدْرَةِ منتهى الإنسانية والاستواء ونفاذ البصيرة، وكانت صعدة سدرة منتهى الكينونة الطالعة حثيثاً من حضيض واقعنا الوطني والقومي والإنساني، المفارقة لصفاته المنتكسة المتنحية..
علَّمها الله ـ كآدم ـ الأسماء كلها، فأعيت علومها المعاجم والأكاديميات ودوائر الأبحاث، وتواطأت المجامع العلمية على وصمها بالسحر، واتفقت على رجمها بكل أحابيل تقانة ما بعد الحداثة الحربية وتدوين ردّات فعلها ورصد الأعراض الطافرة من مسامات ترابها الذي اعتبر بالإجماع مسرحاً مفتوحاً لتجارب القتل الأممي على سبيل البحث العلمي.
وكالعذراء هي صعدة نفخ الله فيها من روحه، فاستعصت عذريتها على فيزياء أطماع الهيمنة والوصاية، وكان مخاضها أطفالاً يكلمون الناس في المهد، وفتياناً يستولدون الحجر الجلمد عسلاً وكرْماً ورماناً وأبجدية بطولات لا حصر لحروفها..
وكالمسيح هي صعدة لا تقر لها المواثيق الكونية بطفولة جديرة بحقوق، بل ترى فيها نبوءة جديرة بالصُّلبان وأكاليل الشوك ثأراً لهيكل الصهيونية الذي تصدع في مهب بزوغها الكثيف الغامر..
وكيوسف هي صعدة ألقاها إخوتها في جب الغيرة، فانعتقت، وراودتها حقول البترودولار عن كرامتها، فاستعصمت، فاستحقت زنزانة الحروب الـ6، واستشرفت عجاف القحط المقبل، فبذرت وادخرت، وكاد لها سُرَّاق الغلال والأقوات، فاستوت على الخزائن، ووزنت بالقسطاس المستقيم، وعما قريب يخر لها الشانئ والغيور والمتآمر سجَّداً، إقراراً بحقها، وعرفاناً ببذلها وإيثارها وتضحياتها وصوابية بوصلتها..
لا خوفَ على صعدة، فصعدة تكمل رسالتها إلى أن يظهرها الله، وكل قطرة دم تنزفها دونها هي قطرة زيت تضيء الطريق، وكل شلو طفل شهيد تحت غارات وحش البترودولار، هي بذرة حياة ستورق وارفة باسقة تعشب في مهب مراوح لقاحها الصحراء العربية، وتتداعى عروش الجبابرة تحت زحف جذورها..
لا خوف على صعدة، وإنما الخوف على أُولئك الذين تموت إنسانيتهم إزاء موت صعدة، فلا يحيون حياتها، وتتخطفهم غارات العدوان خانعين في مضاجع الخدر، مطمئنين لمناعة جدران ذلهم، قاعدين عن مجابهة الأخطار، اعتقاداً منهم أن العدو عدو صعدة دوناً عن سواها من محافظات وأنحاء؛ غير مثمنين لصعدة فدائيتها كسياج فولاذٍ تتكسر عليه موجات الغزو، ولو انهار أمامها لغرق اليمن برمته، ولباتت كُلّ محافظة ومجتمع أهون على أشداق الغزاة ومخالبهم من اصطياد طيرٍ داجنٍ أو حجلٍ مهيضِ الجناح في برِّية.
يقف فلاح صعدة مكابراً على أنقاض مزرعته ومنزله الطيني الذي يغفو سقفه وجدرانه غفوةً مميتةً فوق أضلاع زوجه وأطفاله.. يحصي ما تبقى من حياة، ويبذرها سنابل كفاف لموسم حياة قادم.
تكتنز عيناه الدموع كما تكتنز المزنة ماء الغيث لتسكبه خصباً باذخاً للآخرين، أو كما تتشرب طينة الحقل جديلة ساقيةٍ، فيغدو لونها مِزاجاً من تسنيم، رائقاً لا هو رمل ولا هو ماء..
يقف إنسان صعدة مكابراً على نثار بيته الطيني الحميم، وأشلاء عائلته التي مزقتها شفرات العنقوديات القادمة من بريطانيا وأمريكا والبرازيل ومعامل الصهيونية المبثوثة في شتى أصقاع المعمورة..
يبكي إنسان صعدة بصمتٍ لا يشف عن دموع، فيحسبه أبناء جلدته بلا قلب، ويحسبه الأغراب وحشاً، وتنصب له محاكم التفتيش الأممية قداديس سوداء تثخن خلالها من عامين لحمه بالنصال المحماة والمخارز وأكاليل الشوك، ويتأكد لها بين القُدَّاس والقُدَّاس والمجزرة والمجزرة، صوابية فرضياتها التي ترى في مكابرة إنسان صعدة واستعصائه على أحابيل القتل وقداديس التنكيل، ضرباً من ضروب الشعوذة يستحق عليها كُلّ ما تسومُه إياه وحوش البترودولار الجوية والبحرية والبرية من ألوان العذاب.
تخلَّى العالم (الحر مجازاً) عن موضوعيته المزعومة وحضريته وعصرنته وحداثته وفضائله النظرية الحقوقية منها والسياسية، أَمَــام بشاعة ورجعية وابتذال العدوان الذي يشنه تحالف البترودولار على اليمن، وتحوز صعدة على النصيب الأوفر منه..
تعرَّى الغرب الليبرالي من كُلّ رُقِيٍّ وتهذيب وعلمانية ونزوع نبيل، وانهمك يشاطر عربان النفط ولائمهم البشرية، ويوقع لهم صكوك الغفران في دوائر صناعة القرار العالمي والأممي، عن كُلّ انحطاط وخسة ودناءة ونكوص آدمي يزاولونه بفضائحية مباهية في حفلات شواء مفتوح على مسرح مشاع لنزوات الاحتكارات الحربية العالمية، اسمه اليمن بالعموم وصعدة تحديداً.
لم يحدث على مر تأريخ الصراع الحديث أن تهتكت أقنعة الحداثة الغربية لتسفر عن هذا الكم من الزيف والخواء، كما تتهتك اليوم على محك صمود الشعب اليمني المكابر وطلائعية مجتمع صعدة ومحافظات شمال الشمال الموصومة بـ(التخلُّف) في قاموس يسار يلعق أقدام شيوخ الضب والقار وناصريين يحزمون خصورهم بالعقالات ويرقُصُون على (الواحدة ونص) في فراش طويل العمر بامتنان وزهو نظير فتات الريالات، وليبراليين محليين يؤجرون مؤخراتهم مراكب لسائحات المخابرات المركزية الأمريكية مقابل حقائب جلدية يخطرون بها بخيلاء فارغة في ندوات وورش الخمس نجوم وأفنية تدخين الشيشة و(الأنتمة) المسائية.
غير أن دم صعدة ودم اليمن الطاهر عموماً ليس بخساً حد استمطار شفقة آدميين بلا دم وعالم بلا أخلاق ومواثيق أممية بلا روح، فمنذ البدء لم يكن وارداً الاتكاء على غير سواعد جماهير شعبنا المستضعفة وزنود فلاحينا السمراء وقوانا العاملة الطامحة الخلاقة وبواريد مقاتلينا رجال الرجال في الجيش واللجان الشعبية، وقبل ذلك إيماننا العميق بعدالة قضايانا الذي انجسرت معه معارجُ الصلة بيننا وبين جبار السموات والأرض، فكنا به في غنى عن التسكع على عتبات المنظمات الأممية استدراراً لنصرة أنصاف آدميين يجرهم النفط من أربطة أعناقهم إلى تواليت نزواته كغانيات رخيصات.
و.. صعدة هي وتد وجودنا الأخير الذي يشدنا إلى طينة الوطن، ويصلنا بنواة الأرض، وهي عنقاؤنا الطالعة من رماد الواقع، لا من غبش الأساطير، صاعدةً بنا صوب سدرة منتهى الحرية والكرامة والاستقلال، بجناحين عرضهما الجزيرة العربية، ومداهما رحب الخارطة من الماء إلى الماء