المحاضرة الرمضانية العشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ 13-05-2020 أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ ألا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منَّا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا وتقبَّل منَّا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

بمناسبة انقضاء عشرين يوماً من شهر رمضان المبارك، وبمناسبة قدوم العشر الأواخر نخصص هذه المحاضرة للحديث عن موضوعين اثنين:

الأول: الحديث عن أهمية العشر الأواخر، وعن أهمية التماس ليلة القدر فيها:

شهر رمضان من أوله إلى آخره هو شهرٌ مبارك، وعظيم الفضل، والعمل فيه يمثِّل فرصةً مهمةً في القربة إلى الله -سبحانه وتعالى-، والأجر فيه مضاعف، والعطاء التربوي والروحي لهذا الشهر المبارك، والأثر المهم لصيامه وقيامه والأجواء المباركة فيه، يساعدنا على التزود بالتقوى، ويساعدنا على القربة إلى الله -سبحانه وتعالى- أكثر وأكثر، وهو فرصةٌ مهمةٌ لاكتساب الأجر والفضل عند الله -سبحانه وتعالى-، ولما يترتب على ذلك من فضل الله ومن رعايته في الدنيا والآخرة، فهو شهرٌ عظيم البركة، والتجارة فيه مع الله -سبحانه وتعالى- رابحة، والفضل فيه عظيم، ومع ذلك فللعشر الأواخر منه الأهمية الزائدة، وورد في الأثر عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- أنه كان يولي العشر الأواخر بالمزيد من الاهتمام، والمزيد من العناية، وكان- كما ورد في الأثر- إذا أتت ليلة الحادي والعشرين شمَّر واجتهد، وشدَّ المئزر، وكثَّف من اهتماماته بالقربة إلى الله والدعاء والذكر والعبادة.

من أهمِّ ما يتعلق بالعشر الأواخر هو: التماس ليلة القدر فيها، فالاحتمال لليلة القدر في العشر الأواخر هو أكثر من كل شهر رمضان فيما قد مضى منه، وعادةً ما يركِّز الناس- بحسب الآثار والروايات- على بعض الليالي في العشر الأواخر، ولكن الأفضل- بلا شك- هو التركيز على العشر الأواخر بكلها، وليس فقط على بعض الليالي فيها، هذا هو الأفضل للإنسان، وهو كذلك الأكثر قربةً إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن الإنسان سيستفيد على كل حال؛ لأن لكل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك بركتها وفائدتها، هو كله شهر بركةٍ، وشهر خيرٍ، وشهر قربةٍ إلى الله -سبحانه وتعالى-، والإنسان لن يخسر، واهتمامه بالعشر بكلها سيجعله أكثر احتمالاً لنيل هذا الفضل العظيم، واغتنام فرصة ليلة القدر.

ليلة القدر تحدَّث القرآن الكريم عنها في سورةٍ من سور القرآن الكريم، هي سورة القدر، وأيضاً تحدث القرآن الكريم عنها في سورة الدخان، والحديث عنها هو حديثٌ عجيب، يلفت نظرنا إلى أهمية هذه الليلة من جوانب متعددة: أهمية هذه الليلة وهي الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم، ولعظمة القرآن الكريم ولبركته اختار الله أن ينزله في هذه الليلة، ولصلته بالتدبير الإلهي، ولصلته بالفضل والأجر والقربة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ولأنه رحمة من الله -سبحانه وتعالى- لعباده، ولأنه كتاب هدايةٍ، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولأن له فضله العظيم وأهميته الحتمية في نجاة الإنسان وفوزه، كان نزوله في ليلةٍ مباركةٍ وعظيمةٍ ومهمة، هي ليلة القدر.

وهذه الليلة أهميتها ابتداءً: أنها ليلة تقديرٍ للأمور، في تدبير الله -سبحانه وتعالى- لأمور عباده على مستوى العام القادم، في ليلة القدر يأتي التدبير التفصيلي لكثيرٍ من شؤون حياة الناس على المستوى الشخصي لكل إنسان، وعلى المستوى الجماعي للأمم، للمجتمعات، للكيانات.

وتدبير الله -سبحانه وتعالى- لأمور عباده يتعلق- إلى حدٍ كبير- بطبيعة توجهاتهم، وسلوكياتهم، وعلاقتهم بالله -سبحانه وتعالى-، وهذا من أهم ما يجب أن نستوعبه؛ لأن لأعمالنا، وتصرفاتنا، وسلوكياتنا، ومواقفنا، وتوجهاتنا، علاقة فيما يكتبه الله وبما يكتبه الله لنا أو علينا، أعمال الإنسان لها نتائج، هذا من أهمِّ ما قرره الله -سبحانه وتعالى- وما بنى عليه مسيرة حياة البشرية.

الله -سبحانه وتعالى- مكَّن الإنسان، زوَّده في هذه الحياة بالوسائل التي تساعده على العمل، والإنسان عندما يفعل الخير، يترتب على ذلك النتائج الإيجابية له في حياته، وما يكتبه الله له في الدنيا والآخرة، وعندما يعمل الشر، عندما ينحرف عن منهج الله، عندما يعصي الله -سبحانه وتعالى-، يترتب على ذلك النتائج السيئة عليه في هذه الحياة وفي الآخرة، القانون الإلهي عن النفس البشرية: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة: من الآية 286]، فمن أهم ما ينبغي أن نركِّز عليه على المستوى الشخصي كإنسان: أنت، وأنا… كلٌ منا، على المستوى الجماعي كأمة، أن نجدد العزم والنية، وأن نعقد العزم والتوجه الصادق إلى العمل بطاعة الله -سبحانه وتعالى-، مع الاستعانة به للتوفيق لذلك، إلى أن ننهض بمسؤولياتنا في هذه الحياة التي حمَّلنا الله إياها على ضوء توجيهاته وتعليماته، إلى أن نسعى للجد في ذلك، وأن نلتمس من الله ونطلب منه المعونة على ذلك، والتوفيق لذلك؛ حتى يعلم الله منا نيتنا الصادقة، وتوجهنا الجاد لطاعته والعمل بما يرضيه، هذا من أهم الأمور التي يجب أن يركِّز عليها الإنسان في مثل هذه الليالي المباركة وهو يلتمس ليلة القدر، فإذا علم الله منك في نيتك، وفي مقصدك، وفي توجهك، وفي عزمك، هذا التوجه الجاد في هذا الطريق الذي هو رضا لله -سبحانه وتعالى-، فهذا مما يرجى به من الله -سبحانه وتعالى- الخير والبركة، وأن يكتب للإنسان في واقعه الشخصي، وللأمة التي تتجه هذا التوجه، أن يكتب لها الخير الكبير في حياتها، في شتى شؤون حياتها، وعنده كل الخير، وهو يريد لنا الخير، هو -جل شأنه- أرحم الراحمين؛ إنما مشكلتنا دائماً هي ذنوبنا، هي معاصينا، هي مخالفاتنا لتوجيهات الله وتعليماته، مشكلتنا في تقصيرنا الكبير في مسؤولياتنا وواجباتنا في هذه الحياة، هذا ما يسبب لنا الكثير من الشقاء، والعناء، والمتاعب في هذه الحياة، وما يترتب عليه الكثير من النتائج السيئة في هذه الحياة.

من أهم الأمور أيضاً التي ينبغي أن يحرص الإنسان عليها، وأن يحرص عليها المؤمنون في توجههم العملي: أن يكونوا أيضاً على المستوى العملي في ظل اهتمام فعلي، وتحركٍ جاد، فعندما الله -سبحانه وتعالى- عندما يطَّلع على واقع عباده، ويعلم منهم ومن واقعهم ما هم فيه من العمل، والجهد، والسعي، والتضحية، والبذل، وإخلاص النية، فهذا أيضاً له أهميته الكبيرة في القربة إلى الله -سبحانه وتعالى-، ويرجى من وراء ذلك ما يكتبه الله لعباده المؤمنين، وقد رأى منهم في نيتهم الصدق، وفي واقعهم العملي الجد، والالتزام، والعطاء، والتحرك الجاد والفعلي.

من أهم الأمور التي ينبغي التركيز عليها أيضاً: القربة إلى الله بالعمل الصالح، فالأجر في ليلة القدر مضاعفٌ جدًّا جدًّا جدًّا، أضعاف كبيرة جدًّا، الله -جل شأنه- قال في القرآن الكريم عن هذه الليلة المباركة:

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية 1]، {إِنَّا}: الله -جلَّ شأنه- عظيم الشأن، أنزل كتابه المبارك، كتاب الهداية للعباد، كتاب الفوز والفلاح والنجاة في هذه الليلة المباركة: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، {فِي} هذه يعني في الإشارة إلى النص القرآني، وإلَّا لا يدري الإنسان متى هي، في أيٍ من الليالي العشر على وجه الدقة والتأكيد، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر: الآية 2]، هذا للتعظيم، لتعظيم هذه الليلة، هذا التعبير القرآني: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، يعبِّر عن الأهمية الكبيرة جدًّا لهذه الليلة، عن عظيم فضلها وبركتها، أنها ليلة عظيمة ومباركة.

ثم يزيد أكثر من ذلك فيقول: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: الآية 3]، فهذه الليلة المباركة، العظيمة الفضل، المشار إليها في الآية المباركة، وهي ليلة القدر، {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، منزلتها فضلها يفوق ألف شهر، وليس يساوي؛ إنما يفوق، {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، بمعنى: أنَّ ذلك يفوق الثمانين عاماً، فما يعمله الإنسان من العمل الصالح إذا قُبِلَ منه في ليلة القدر، سيتضاعف بأضعاف كثيرة جدًّا تفوق عمراً كاملاً؛ لأن ثمانين عاماً هو عمرٌ كامل، فالأعمال الصالحة من جهاد، من إنفاق… من أنواع البر، من الصدقات، من الإحسان، من الصلاة… كل أعمال البر المتنوعة، تضاعف في هذه الليلة أضعافاً كبيرةً جدًّا، وكأنَّ الإنسان قدَّم ذلك على مستوى أكثر من ثمانين عاماً، فضل عظيم يفوق الخيال، يفوق التصور، وفرصة عظيمة جدًّا، ومن الخسارة الرهيبة أن تفوت الإنسان هذه الفرصة، وأن يفوتها، أن يضيع مثل هذه الليالي العشر، التي فيها هذه الليلة المباركة بالاحتمال الأكبر، خسارة كبيرة جدًّا.

ثم يقول: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: الآية 4]، هي ليلةٌ تنزل فيها وتتنزل الملائكة فيها من السماء إلى الأرض، وفق التدبير الإلهي؛ لأمور لها صلة بالتدبير الإلهي، والترتيبات والإجراءات التي يتم الترتيب لها في الأرض حسب تدبير الله -سبحانه وتعالى-، {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: الآية5]، وهي ليلة سلامٍ من العقوبات الإلهية، يمنُّ الله فيها برحمته فلا ينزل فيها عذابٌ، ليلة مباركة، وليلةٌ عظيمة، وليلةٌ مهمة.

يقول الله -جل شأنه- في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: من الآية 3]، عن القرآن الكريم طبعاً، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، يعني: القرآن، {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، يصفها بالبركة، وبركتها بركة عظيمة، {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا} [الدخان: 3-4]، يعني: في تلك الليلة (ليلة القدر)، {يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: من الآية 4]، يُفصل ويُميز وتُحدد في تدبير الله -سبحانه وتعالى- للعباد كل أمورهم المتعلقة بشؤون حياتهم، ووفقاً لحكمة الله -سبحانه وتعالى-، {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 5-6].

فليلة القدر لها أهميتها، من حيث أنها ليلة لتقدير الأمور وتدبير شؤون العباد على مدى عامٍ قادمٍ، ولها أهميتها في عظيم فضلها بالنسبة للعمل، والتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، وتجديد العزم والنية على الالتزام بكتاب الله، التمسك بهدي الله، الطاعة لله -سبحانه وتعالى-، والاهتداء بكتابه، والتمسك بكتابه الذي نزل في ليلة القدر، والذي سيتحدد مصير البشر ومصير الإنسان على ضوء علاقته بهذا الكتاب في مستوى: الاهتداء به، والتمسك به، والالتزام به؛ لأنه صلتنا بالله -سبحانه وتعالى-، وهو نزل في ليلة القدر، وله علاقة بالتدبير الإلهي، والتدبير الإلهي سيكون له علاقة بمدى تمسُّكنا بهذا الكتاب، واهتدائنا بهذا الكتاب الذي هو حبل الله، وصلة بيننا وبين الله -سبحانه وتعالى-.

ثم أهمية ذلك على مستوى الدعاء، يعني: من أهم ما ينبغي التركيز عليه أيضاً في التماس هذه الليلة المباركة هو الدعاء، الدعاء بطلب المغفرة، ومن أول ما يركِّز الإنسان عليه في دعائه هو: طلب المغفرة، وهكذا كان الأنبياء يفعلون -صلوات الله وسلامه عليهم-، كيف أدعيتهم التي سطرها الله في القرآن الكريم يتصدرها الدعاء بطلب المغفرة: {رَبِّ اغْفِرْ لِي}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا}، {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}… وهكذا تركيز كبير على طلب المغفرة؛ لأن أحوج ما نحتاج إليه ابتداءً هو المغفرة، أن يغفر الله لنا ذنوبنا، أن يغفر الله لنا تقصيرنا، وطلب العفو، وطلب النجاة والعتق من النار، هذا من أهمِّ ما يركِّز الإنسان عليه في دعائه، والدعاء أيضاً بالنصر، بالفلاح، بخير الدنيا والآخرة، والدعاء بالآية المباركة الجامعة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: من الآية 201]، طلب العتق من النار هو من أهم ما يحرص عليه الإنسان المؤمن، ومن ضمن أولوياته فيما يطلبه من الله، ويسأله من الله، ويرجوه من الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه أمرٌ مهمٌ جدًّا، طلب التوفيق، الدعاء إلى الله فيما يتعلق بقضايا معينة يعاني منها الإنسان في حياته، أو مشاكل معينة، أو أمور معينة، أو قضايا ذات تأثير معين على الإنسان، الأمة كذلك، الدعاء بالنصر في مواجهة أعداء الله، أعداء الأمة، أعداء الحق والإنسانية… وهكذا أدعية تتناول خير الدنيا والآخرة، وقضايا تفصيلية أو خاصة ذات أهمية في حياة الإنسان، أو تأثير عليه في واقع حياته: طلب العافية، طلب الرزق، طلب البركة…إلخ.

فمن المهم الالتماس لهذه الليلة في العشر الأواخر، والتركيز- من ضمن ما نركِّز عليه فيها- على الدعاء، والعناية بالدعاء، والإكثار من ذكر الله -سبحانه وتعالى-، ذكر الله مسألة متاحة للإنسان أينما كان، حتى في الجبهة في ميدان القتال، في ظل أي ظروف عملية هو فيها، يستطيع أن يكرر من ذكر الله، وأن يكثر من ذكر الله، وأن يدعو بالأدعية القرآنية التي لها ميزة أنها جامعة ومختصرة، وتتناول أيضاً المواضيع المهمة.

وللأسف الشديد يقصِّر الناس أكثر ما يقصِّرون في الأدعية: في الأدعية القرآنية، يركِّزون على كثيرٍ من الأدعية من هنا وهنا، ونحن لا نلوم ولا نذم على مسألة الاهتمام بالأدعية، سواءً من الصحيفة السجَّادية، أو من غيرها من الأدعية المأثورة، ولكن مع التركيز على الأدعية القرآنية التي هي جامعة، والتي قدَّمها لنا الله -سبحانه وتعالى-، الدعاء بالنصر: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: من الآية 147]، من الأدعية المهمة والعظيمة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية 250]، الدعاء بالهداية وأن يقينا الله الزيغ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: الآية 8]… وهكذا الكثير من الأدعية المهمة، وحتى الأدعية بشكل طبيعي، يعني: لا يحتاج الإنسان إلى تكلف، حتى العامي من الناس يمكنه أن يدعو الله بلهجته العادية، بعباراته العادية، لا يحتاج إلى تكلف، يطلب من الله النجاة من عذاب الله، يطلب من الله التوفيق، يطلب من الله حسن الختام، يطلب من الله الرزق، البركة، الخير، العافية…إلخ. يدعو للمؤمنين والمؤمنات، يدعو لوالديه، لا ينسى الإنسان والديه من البر لهما: سواءً على مستوى الدعاء، أو على مستوى القرب الأخرى التي يمكن أن ينوي بها الإنسان عن والديه ليبرهما؛ لأن بر الوالدين يدخل فيه الدعاء لهما، تقديم القربة عنهما، كالصدقة… ونحوها، هذا مهم.

من المهم أيضاً ملاحظة صلة الأرحام، ونحو ذلك من القرب إلى الله -سبحانه وتعالى-، هذا هو الموضوع الأول.

الموضوع الثاني: في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك التحق الإمام عليٌ -عليه السلام- بالرفيق الأعلى شهيداً، والإمام عليٌ -عليه السلام- هو أصيب في شهر رمضان في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، لكنه نال الشهادة والتحق بالرفيق الأعلى في ليلة الحادي والعشري من شهر رمضان المبارك، وتعتبر هذه بالنسبة للإمام عليٍ -عليه السلام-، يعتبر هذا فوزاً عظيماً له، لقي الله -سبحانه وتعالى- في ليلةٍ قد تكون هي ليلة القدر شهيداً، مع رصيدٍ عظيمٍ جدًّا من العمل الصالح، والجهاد في سبيل الله، والهداية للعباد إلى دين الله، والمرتبة العالية جدًّا على المستوى الإيماني التي كان قد بلغها.

والإمام عليٌ -عليه السلام- هو في علاقتنا به وفي موقعه في الإسلام في المرتبة التي قدَّمه فيها الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، وتحدث عنها رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، ولذلك تعتبر أكبر نكبة وفاجعة للأمة من بعد وفاة الرسول النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- هي استشهاد الإمام علي -عليه السلام-، تعتبر نكبةً كبيرة، وكيف لا تكون كذلك والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- قال للإمام عليٍ -عليه السلام-: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)، فالإمام عليٌ -عليه السلام- هو في هذه المنزلة، في هذه المرتبة، في هذا الموقع، منزلته من رسول الله محمد -صلوات الله عليه وعلى آله- هي بمنزلة هارون من نبي الله موسى -عليهما السلام-.

في هذا الموقع المهم، في هذا المستوى العظيم، في هذه المنزلة المهمة كان الإمام عليٌ -عليه السلام-؛ ولذلك تعتبر نكبة كبيرة، وخسارة رهيبة على الأمة، وفي مرحلة من أخطر المراحل في تاريخ الأمة؛ ولذلك كان لاستشهاد الإمام علي -عليه السلام- تأثير كبير جدًّا في واقع الأمة، واستغل أعداء الأمة من المنافقين والطغاة والظالمين والجبابرة الفراغ الكبير الذي تركه رحيل الإمام علي -عليه السلام-، وتخاذل الأمة ما بعد ذلك عن الإمام الحسن -عليه السلام-، وعن الإمام الحسين -عليهما السلام-، فكانت النتيجة كارثية في واقع الأمة، وانتشر الضلال، وعمَّ الظلم والجور والملك العضوض.

الإمام عليٌ -عليه السلام- من خلال الأحاديث والنصوص التي وردت عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وروتها الأمة كل الأمة باختلاف مذاهبها ومشاربها، يتضح لنا ما يمثله من أهمية في جانبين مهمين ورئيسيين:

الأول: أنه يقدم النموذج الأصيل والحقيقي والسليم عن الإسلام، وعن الشخصية المسلمة: وهو هنا يقدم النموذج الذي لا تشوبه شائبة، النموذج الأصيل، المتطابق حتماً مع المعايير والمواصفات القرآنية، فهو جسَّد قيم الإسلام ومبادئه، وحمل روحية هذا الدين وأثره في فكره، وفي وعيه، وفي ثقافته، وفي مبادئه، وفي أخلاقه، وفي سلوكه، وفي أعماله، وفي مواقفه؛ فكان بحقٍ قرآناً ناطقاً، وإيماناً متجسداً يمشي على الأرض، وهذا من أهم ما نحتاج إليه في واقعنا كأمةٍ مسلمة: إلى أن يتشخص لنا النموذج الحقيقي، النموذج الصحيح؛ لأن الأمة لها ارتباطات كثيرة بكثيرٍ من الرموز الدينية، بكثيرٍ من الشخصيات التي تقدم على أنها تمثَّل الإسلام، أنها حملته فكراً، وأنها تمثله سلوكاً وعملاً ومواقف، والكثير من هذه الشخصيات قد تكون شخصيات مزيفة، أو تشوبها الشوائب، فهي لا تمثل حقيقة الإسلام والإيمان متكاملةً ونقيةً دون شوائب؛ إنما تشوبها الكثير من الشوائب، وهذا يترك تأثيراً سيئاً على الناس في ارتباطهم بمثل هذا النوع من القدوات المزيفة، التي يتأثرون بها تأثراً أعمى؛ فينعكس ذلك سلباً فيما يأخذونه عنها من الشوائب المحسوبة على أنها من لُبِّ الإسلام ومن جوهر الإيمان، ثم تقدم على أنها من القيم الأساسية للإسلام؛ فيعظم الالتباس، ويحصل الخلل.

تحتاج الأمة إلى أن يتشخص لها النموذج، الذي هو نموذجٌ سليمٌ وصائبٌ وصحيحٌ ومتكاملٌ وراقٍ؛ فتجعل منه النموذج الذي تحذو حذوه، ويتشخص فيه، ويظهر فيه، ويتجلى فيه أثر هذا الإسلام، وعظمة هذا الإسلام في كل مجالات الحياة، وفي كل الأبعاد والمعاني والجوانب في الشخصية الإنسانية؛ لأن الإمام علياً -عليه السلام- كان شخصيةً متكاملةً فيما حمله من هذا الدين، فكان هذا التكامل وهذا الكمال الذي قدم فيه أرقى صورة عن الإسلام، وعن الإيمان، وعن الدين الإسلامي.

ثم الجانب الثاني: وهو أيضاً في غاية الأهمية، وهو أنه يمثل حلقة الوصل والامتداد الأصيل بالرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-: ما بعد رسول الله اختلفت الأمة، وأتى الكثير الكثير، كلٌ منهم يقول: [قال الله، وقال الرسول]، ثم يقدِّم هذا شيئاً، وهذا شيئاً مختلفاً عنه، وهذا شيئاً مناقضاً له… وهكذا، ومعروف ما وصلت إليه الأمة من الاختلاف والفرقة في الدين وللأسف الشديد، فلا بد من معالم للحق، ما بعد وفاة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، ما بعد أن تدخل الأمة مثل هذه الحالة من الفرقة والاختلاف، وأن يكثر فيها الزيف، وأن يأتي الكل ليقدم نفسه أنه الناطق الرسمي باسم الإسلام، والمعبر الحقيقي عن الإسلام، والممثل الصادق لهذا الدين، فكان أول هذه المعالم من معالم الحق: هو الإمام عليٍ -عليه السلام-، وهذا ما ركَّز الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- ليوضحه للأمة، وليتحدث عنه في مواطن ومقاماتٍ كثيرة في حياته، فيما كان يتحدث فيه عن الإمام عليٍ -عليه السلام-، عندما كان يقول: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي)، ماذا كان يقصد بذلك؟ أليس القرآن هو كتاب الهداية، أليست الأمة ستأتي فيما بعد وفيها الكثير من الرموز والشخصيات العلمائية، ليتحدثوا عن القرآن ومن القرآن وباسم القرآن، الله حفظ القرآن من التحريف لنصه، لكن الأمة ستختلف على تأويله، على مفاهيمه، على معانيه، على مصاديق آياته، هنا الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- يحدد فيقول: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي)؛ ليؤكد هذا التلازم وهذا الاقتران، فعندما تختلف الأمة على التأويل، عندما تختلف الأمة على المفاهيم، عندما تختلف الأمة على المعاني، عندما تختلف الأمة على المصاديق، في الوقت الذي تقول فيه عن القرآن، وتتحدث فيه بالآيات القرآنية، فالذي هو مع القرآن والقرآن معه، وهو يقدم المفهوم الصحيح للآيات القرآنية، والمصاديق الحقيقية للنصوص القرآنية، والتأويل الصحيح المتطابق للنص القرآني: هو عليٌ -عليه السلام-، علم للحق، معلم واضح وبارز للحق.

عندما قال الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-: (عليٌ مع الحق، والحق مع علي)؛ كذلك ليؤكد هذا الاقتران وهذا التلازم، فعندما تختلف الأمة على الحق، وهي- في نفس الوقت- تنطق عن الحق، وتعبر عن الحق، فكلٌ يأتي ليقول أنه هو الذي يقدم الحق، هو الذي يمتلك الحق، هو الذي يعرف الحق، على مستوى العقائد، على مستوى الشرع، على مستوى التفاصيل والمفاهيم، على مستوى المواقف، فأين هو الحق، بين كل الذي يأتون ليقدموا ما يقدمونه باسم أنه الحق؟ الرسول يقول هنا: (عليٌ مع الحق- وأكثر من ذلك- والحق مع علي)؛ تلازم واقتران، فتلتمس وتتعرف على الحق من خلال ما قدمه عليٌ، هو الجهة المؤتمنة في هذه الأمة، حلقت الوصل المؤتمنة، عندما الأمة تقول عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-، وتتحدث عن الرسول، وتروي عن الرسول، ثم تروي المتناقضات، ثم تختلف فيما ترويه وفيما تنقله، وفيما تقدمه، فيقول هذا: [قال رسول الله]، والآخر: [عن رسول الله]، والثالث: [بلغنا عن رسول الله]، فهذا الحديث يختلف عن هذا، وهذا يتناقض مع هذا، وهذا يصطدم بهذا؛ هنا الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: (أنا مدينة العلم، وعليٌ بابها)، عليٌ هو الباب الذي نأتي منه، وهو حلقة الوصل الذي تربطنا بشكلٍ موثوقٍ ونقيٍ، بدون أي شائبة.

ثم هكذا في علاقتنا الإيمانية، الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما قال للإمام عليٍ -عليه السلام-: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)؛ ليكون الحب الصادق، الحب الذي يترتب عليه العمل والاقتداء والاتباع، ليكون هو المعيار والعلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق في هذه الأمة، وهذه من أهم العلامات الفارقة في واقع الأمة، وهذا نصٌ متفقٌ عليه بين الأمة عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-؛ فالمنافق لن يطيق علياً، لن يتقبل علياً -عليه السلام-، لا بد وأن يكون له موقف سلبي، أن تبرز منه حالة الاستياء حتى عند الحديث عن الإمام علي -عليه السلام-، لا يرتاح لذلك، على حسب التعبير المحلي [يضبح]، وهذه حالة بارزة في الكثير من أبناء الأمة ممن كان لهم الدور السلبي، ولا يزال في تاريخ الأمة وإلى اليوم وفي عصرنا حالة بارزة فيهم: الاستياء من الإمام عليٍ -عليه السلام-، البغض لمولانا أمير المؤمنين عليٍ -عليه السلام-، والمحاربة للإمام علي -عليه السلام-، للحديث عن فضائله، عن مناقبه؛ لفصل الأمة عن التولي له، مع أن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- قال أيضاً فيما روته الأمة، واتفقت عليه الأمة، وصح عند الأمة: (يا أيها الناس إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِّ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)، لا يتحقق لك الولاء الصادق لرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، إلا بالولاء لأمير المؤمنين عليٍ -عليه السلام-، وفق هذا النص الواضح الصريح، الذي جعل فيه التلازم ما بين التولي لرسول الله والتولي للإمام عليٍ -عليه السلام-، وإلا فأنت في الموقع الذي لم تتقبل فيه ما أتى به رسول الله؛ لأنه هو الذي يقول كل هذا: (عليٌ مع القرآن، والقرآن مع علي)، (عليٌ مع الحق، والحق مع علي)، (من كنت مولاه، فهذا عليٌ مولاه)… هو الذي يقول كل هذا، كيف يمكن أن تكون متولياً لرسول الله وأنت ترفض جملةً مما أتى به، مما بلغه، وهو بلغه عن الله، لم يكن اجتهاداً شخصياً، ولم يكن رأياً شخصياً، الله قال عن الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4]، ما قدمه يقدمه عن الله، ليست مسألة اجتهادات شخصية، أو آراء شخصية، أو إعجاب شخصي بالإمام عليٍ -عليه السلام-. |لا| المسألة هي في غاية الأهمية.

فالإمام عليٌ -عليه السلام- يمثِّل هذه الأهمية بالنسبة لنا كأمةٍ مسلمة، هذا ما يجب أن نرسخه وأن نركز عليه؛ لترسيخ الولاء والمحبة للإمام عليٍ -عليه السلام- في أنفسنا، في واقعنا، في علاقتنا الإيمانية، وأيضاً في أبنائنا وفي مجتمعاتنا، في جيلنا، ومن خلال أيضاً العناية بتعليم جيلنا ومجتمعنا ما قاله الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله وسلم- عن الإمام عليٍ -عليه السلام-، وتعريفهم بسيرة الإمام عليٍ -عليه السلام-، دون الاكتراث للإرهاب الثقافي الذي يأتي من مبغضي الإمام علي -عليه السلام-، والذين يكفيهم سوءاً أن بغضهم له، عداوتهم له، استياءهم منه، عدم ارتياحهم للإمام علي -عليه السلام- شاهداً على نفاقهم، وعلى خذلانهم، وعلى انحرافهم.

فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره.

وإن شاء الله نعود إلى دروسنا في المحاضرات القادمة، لاستكمال ما ورد في الآيات المباركة عن غزوة بدرٍ الكبرى، والدروس المهمة للأمة، التي تبني الأمة؛ لتكون أمةً قويةً مجاهدةً، في مستوى مواجهة التحديات والأخطار، في المحاضرات القادمة.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات ذات صلة